جازان وعادات الحج قديماً
لموسم الحج احتفالية كبيرة وبهجة عظيمة لدى أهل منطقة جازان منذ القدم وتحديداً منذ أكثر من قرن من الزمن حيث كان الناس يستعدون لهذا الموسم العظيم قبل دخول شهر الحجة بمدة طويلة وبخاصة الراغبين في الحج من أصل المال والاستطاعة المادية والصحية في وقت لم تكن متوافرة فيه وسائل النقل الحديثة وتكتنف طريق الحج الكثير من الأخطار الكثيرة والقاتلة أحياناً. وكان الناس يستعدون لموسم الحج قبل عيد الفطر المبارك أي قبل حلوله بشهور عديدة وأحياناً أكثر من ذلك سيما لمن ينوي الحج من الميسورين وأهل الأموال وهم قلة في ذلك الزمن وإذا ما نوى الشخص الحج تبدأ معه مراسم وعادات وتقاليد وأهازيج شعبية رائعة بلهجة أهل المدن والقرى والجبال النائية ويبدأ الحاج في البحث عن الرفقة الصالحة الطيبة التي تساعده على الخير وتسعى إليه ثم يقوم بتجهيز راحلته من الجمال أو الحمير أو البغال وعادة ما ترافق الحجاج قافلة كبيرة من الجمال محملة بكافة المؤن والمواد الغذائية والمياه وحتى الأسلحة البيضاء والأسلحة النارية الخفيفة التي يحملها الحاج معه اتقاء لخطر قطّاع الطرق في تلك الأيام الخوالي من الزمن أي قبل قرن أو أكثر.
وكان الذاهب إلى الحج في ذلك الوقت يعد نفسه شبه مفقود وقد يعود لأهله أو لا يعود حيث تتربص بهم الأمراض الخطيرة والحيوانات الفتاكة المفترسة اضافة للجوع وقطّاع الطرق كما أسلفت هذا بالنسبة لمن أراد الحج عن طريق البر في وقت لم تكن الطرق سهلة ومسفلتة كما هو الوضع في العصر الحاضر ولله الحمد عصر النهضة والرخاء والأمن والأمان ولله الحمد والمنة
أما أهل جزيرة فرسان فالوضع يختلف تماماً حيث يركبون البحر ويتعرضون لأهواله وأعاصيره وأمواجه العاتية وتستمر الرحلة البيئية عدة أشهر يمضيها الحجاج في حل وترحال وتعب ونصب وخوف وألم على فراق أحبابهم وأبنائهم وأقاربهم.
وعندما يعتزم الشخص الحج إلى بيت الله الحرام يبدأ أقاربه وجيرانه في التجمع في منزله قبل موعد السفر بعدة أسابيع وكذا قبل أسبوع من السفر لينشدوا أهازيج وهي عبارة عن أبيات شعبية جميلة من الشعر الشعبي وكأنهم يودعون قريبهم الحاج متمنين له حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وعوداً حميداً إلى أهله وذويه سالماً معافى ومن تلك الأهازيج الجميلة هذه الأهزوجة للشاعر الشعبي عبدالرحيم البرعي – رحمه الله – التي ذكرها الشاعر عبدالله ابراهيم مفتاح كتابة د.فرسان، الناس والبحر والتاريخ وهي طويلة نقتطف بعضاً من أبياتها الجميلة المعبرة.
تقول الأهزوجة:
الناس قد حجوا وقد بلغوا مرادهم
وأنا اللي لا حجيت ولا بلغت مرادي
يا واصلين إلى منى بعشية
ردوا السلام علي أهل ذاك الوادي
بالله يا زوارمسجد طيبة
من كان منكم رائحاً أو غادي
إذا وصلتم سالمين فبلغوا مني
السلام على أهل ذاك الوادي
ردوا السلام على أهل طيبة كلهم
الشب والشيبان والأولاد
وهذه أهزوجة شعبية وداعية أخرى للشاعر الفرساني أحمد عمر مفتاح يقول فيها:
ودعن بك يا ضلع جنبي اليمين
يا بوعمر يا مكتمل يا رزين
ودعت بك ودمع عيني يجول
هلت دموعي مثل هل المطر
راجعت عقلي يوم عقلي افتكر
وقلت يهنا من جواره الرسول
يوم الخميس الصبح جد الفراق
لا تنظر إلا الدمع وإلا الضياق
ندعي لهم بالعافية والقبول
أما النساء فيقمن في منزل الحاج وداعية حزينة وأناشيد لها ألحان جميلة وذلك عند حلول أول يوم من شهر الحجة من تلك الأهازيج التي تقال في وداع الحجاج قولهم:
ودعن بك مصطفاية
حالية كالسكراية
قط ما سوَّن حكاية
خاطرك يا احمد حسن
شانو دع بالعزيز
ذهب صاخي من باريز
من خيول عبدالعزيز
خاطرك يا احمد حسن
ومن أجمل الأهازيج الشعبية التي ترافق قافلة الحجاج عند انطلاقهم من منازلهم متجهين إلى بيت الله الحرام هذه الأهزوجة التي تستعجل بها النساء عودة الحاج سليماً معافى من المشاعر المقدسة ومنها قولهم:
غابوا عليه مثل لمح البصر
في حفظ ربي سالمين الخطر
حج الهنا وتجارة لن تبور
من بعد طمَّن لي على خاطري
بعد المغيبه الهموم تنجلي
مدة قصيرة والقهاوي تدور
شروا ضحاياهم ولبسوا الحرام
ومن الخطا يعصمون الكلام
ألا بذكر الله في كل قول
لبسوا الحِرام رجالهم والنساء
ومتابعين لسنّة المصطفى
ما تسمع إلا الدمدمة والبكا
ما بين زمزم والحطيم والصفا
والعين بالدمعة الغزيرة تخور
وقبل انتهاء موسم الحج بأيام تبدأ ربات البيوت بالاستعداد لاستقبال ذويهم الحجاج بشوق بالغ مرددين أهازيج شعبية جميلة تسمى أهازيج (العَجل) وهو مأخوذ من التعجيل أو استعجال مجيء الحجاج بعد عودة الحجاج من منى أي في ليلة اليوم الثالث من (منى) وتقوم النساء بطلاء المنازل ودهنها بالنورة البيضاء أو الجس وتنظيف قبل المنزل “حوشه” و”عرسته” استعداداً لعودة الحجاج.
وهناك عادة جميلة اختفت هذه الأيام وهي تجيز (قعادة الحاج) أي الكرسي المصنوع من الخشب أو السرير الخشبي وذلك تكريماً للحاج ويتم صناعتها من الخشب أو عيدان شجر السدر ويتم صناعة قعادة الحاج بمواصفات خاصة تختلف عن القصايد المعروفة وذلك في اليوم التاسع من ذي الحجة واثناء صناعة تلك (القعادة) تتجمع النساء وترتفع الزغاريد معلنة فرح أسرة الحاج بقرب عودة ذويها بعد أداء فريضة الحج ويرددون هذه الأهزوجة الجميلة:
يوم تحبيل القعادة
كانت أيام السعادة
والجميع في سرور
ويقولون أيضاً:
يوم تصليح القعادة
يحضرون اشراف وسادة
وإذا ما تم الانتهاء من تصليح القعادة وتزيينها يتم تخصيص كل ركبة أو كل جانب من القعادة لواحدة من قريبات الحاج كوالدته وأخواته ويتم فرشها بالسجاد والمخدات الجميلة والجديدة ليجلس عليها الحاج بعد عودته وسط مظاهر البهجة والسعادة والفرح إلا انه يتم منع أي شخص من الجلوس على ذلك السرير الخشبي حتى عودة الحاج من بيت الله الحرام ليكون أول شخص يجلس عليها احتفاء بوصوله سالماً معافى.
وقد اختفت هذه المظاهر الاجتماعية في زمننا بعد دخول المدنية الحديثة لكافة المدن والقرب بالمنطقة في هذا العهد السعودي الزاهر الزاخر بالعطاء والنماء إلا ان مظاهر الاحتفاء بالحجاج في وداعهم واستقبالهم مازالت قائمة حتى يومنا هذا في القرى والمدن على حد سواء.
هدية الحاج …
من الأمور التي ارتبطت بالحج ..هدية الحاج في منطقة جازان التي لا يمكن للحاج ان يعود بدونها.. فهي كما كان يعتقد في السابق دليله الوحيد على أنه قد أتم فريضة الحج. ولكل حاج حرية في اختيار الهدية التي سيحضرها لتوزيعها على أقاربه وأصدقائه وجيرانه أطفالاً ونساءً ورجالاً.وبالرغم من هذه الحرية في الاختيار إلاّ أنه يتوجب عليه وبشكل أساسي أن يحضر “الصُّنبُرا” أو “العمبرا” والسبَح والحلويات” كأمور أساسية في الهدية وله أن يزيد عليها ويصنفها فمنها ما يكون للأطفال كالألعاب والدُّمى ومنها للنساء كالخواتم والحلي الفضية والمذهبة، ومنها لكبار السن والشباب كالسبح والطواقي والمظلات الواقية من الشمس واللوحات المجسدة للمشاعر المقدسة.
ومن الطريف جداً أن هناك اعتقاداً سائداً في الماضي وقد تلاشى في عصرنا الحاضر.. يتمثِّل في أن من لم يجلب لهم (الصنبرا) أو (السبح) لم يحج هذا العام ولم يزر بيت الله الحرام، بل ذهب إلى مكان آخر غير مكة معلقين على ذلك بقول شاعرهم:
حلفت ما أصادق إلين عيني تنظره
وإنه حج مكة حتى يقسم صنبرا
ويقصد بذلك أنه أقسم بأنه لن يصدق بحج ذلك الرجل حتى يبدأ في توزيع الهدايا وأهمها “الصنبرا” ويقصد بها الحمص أما عينه.. عند ذلك يتيقن من حجه.
فمنذ الأيام الأولى لوصول الحاج.. وبعد اختفاء عادة “قعادة الحاج” التي كانت قديماً يتفنن في صناعتها وتهيئتها وفرشها بالرياحين والأزهار والنباتات العطرية.. يستقبله أهله وذووه.. النساء بالزغاريد والأطفال بالألعاب النارية والكبار بإطلاق الطلقات النارية في الفضاء.. احتفاءً بمقدم “حاج بيت الله .. وغائبهم المنتظر بعد أن أدى فريضة حجه وله أن يدخل منزله فور وصوله في أي وقت وأي حين ويجلس في أي موقع.ففي السابق كان الحاج لا يدخل منزله إلاّ نهاراً فإذا صادف دخوله لمنزله غروب الشمس ودخول الظلام لا يدخل دياره بأكملها بل ينام على مشارفها ليلاً ويأتيها في الصباح.. وذلك اعتقاداً منه أنه جاء من أرض النور فكيف يعود في الظلام.. وقد اختفت هذه العادة للأبد.
وما أن يستريح الحاج في منزله حتى يبدأ في استقبال المهنئين بالحج المبرور والسعي المشكور إن شاء الله وسلامة الوصول إلى منزله.. وما أن تنتهي فترة الزيارة والتهنئة حتى يبدأ فيها المهنئون بالسؤال عن المشاعر والحجيج والظروف التي صادفت حجه وماذا ألاحظ من منجزات وتطورات والتأكد من ما وصلهم من شائعات حول الحرائق أو الوفيات الجماعية أو الدهس وغيرها من الإشاعات التي ترافق مواسم الحج.. التي حَدَّت منها الخدمات التي تبذلها حكومة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني في سبيل راحة الحجيج وأمنهم.
وفي هذه الأثناء يسترق الحاضرون النظر إلى حقائب الحاج.. حيث يبدأ الحاج بتوزيع ما يثبت حجه في نظرهم من هدايا وتكون تلك الهدايا على جزءين توزع كالآتي:
الأول: يقدم لكل من قدم إلى تهنئته سبحة أو طاقية أو مظلة شمسية أو لعبة لطفله إذا قدم معه وتعطى له فوراً.
الثاني: يلحقه إلى منزله بعد مغادرته وهو عبارة عن (الصنبرا) وبعض المكسرات والخواتم والدُّبَلء والحِلَق الفضي والمذهب. وبذلك يكون ذلك الشخص في نظر الجميع أدى فريضة الحج لهذا العام. ولم تعد هذه العادة بكامل تفاصيلها اليوم بل طغت عليها المَدَن .
http://www.jazanonline.net/ar/?p=58
0 التعليقات :