البداوة والحضارة
البداوة والحضارة
يذهب الصويان إلى أن النظرة المنحازة ضد البداوة هي نتاج لصراع الحضارات النهرية مع أهالي الصحارى العربية، نشأت الكتابة في تلك الحضارات، في ممالك الهلال الخصيب، وحسمت الصراع لصالحها، لكن تبقى هذه الرؤية أمرا غير حيادي ومخالفا للمنهجية العلمية، إن عجلة التطور تسير وفق آليات معنية يحكمها تلاحم ظروف مختلفة، ونشأة الكتابة في ممالك الهلال الخصيب تدفعها مجموعة من الآليات التي غابت عن حياة أهالي الصحارى العربية، وغياب تلك الآليات يبرز الاختلاف فقط ولا يوحي بتخلف أهالي الصحراء: «الحياة البدوية حياة ترحالية لا تبني ولا تشيد وثقافتها ثقافة شفهية لا تقيد ولا توثق» ومع تأسس الدولة الإسلامية وانتقال مراكزها إلى الشام والعراق ومصر، ترسخت تلك النظرة المنحازة ضد البدو مع إسهام أهل الهلال الخصيب والفرس في صياغة المدنية العربية: «هذا يعني أن الحضارة العربية بتحولها إلى حضارة كتابية وقعت هي نفسها في مصيدة الانحياز ضد ذاتها، خصوصا بعد نشوء مفهوم الدولة الذي هو على النقيض من مفهوم القبيلة لذلك نجد ابن خلدون يرى في البداوة نقيضا للحضارة وضدا لها» هذا المفهوم للبدو يعتبر أهل وسط الجزيرة وشمالها كلهم بدوا، بما فيهم من تحضر من الفلاحين. ابن خلدون يؤكد أن وجود البدو يعتمد أساسيا على وجود الحضر لسد حاجاتهم الضرورية وهذا يتنافى مع أولية البدو على الحضر وهو ما يتناقض مع اعتباره للبداوة مرحلة بدائية سابقة للحضارة.
التنظيم القبلي هو في حقيقته مؤسس على الأحلاف، تنشأ التحالفات على المصالح المشتركة أو التجاور، وتحل لاحقا أسطورة النسب محل الوحدة المكانية.
يجب أن نفرق ما بين البداوة والبدائية، الإنسان البدائي هو الذي يعيش في مجموعات قرابية صغيرة تمارس الجمع والصيد والبحث عن مصادر الغذاء الطبيعية، وترتحل للبحث عن القوت فقط، وهي مرحلة من العيش سابقة للزراعة والرعي واستئناس الحيوان: «لا يمكننا مقارنة البداوة بالبدائية لأنها تختلف عنها نوعيا وتتفوق عليها بمراحل من الناحية الثقافية ولأن متطلبات الحياة الرعوية لا تقل عن متطلبات الحياة الزراعية من حيث المستوى التكنولوجي ومستوى التنظيم السياسي والاجتماعي»، الإنسان البدوي يرتحل بحثا عن المرعى، استأنس الحيوانات واستفاد من ركوبها وحلبها كما استفاد من صوفها وجلودها وعظامها وله سلطة عليها بعكس الإنسان البدائي، كما أن المجتمعات البدوية ليست معزولة كما هي البدائية، هذا الحديث بالتأكيد لا ينطبق على النظام القبلي الذي يؤكد الصويان أنه مرحلة سابقة لقيام الدولة. من الصحيح أن نقول إن الثقافة الحضرية كانت أكثر تقدما من الثقافة البدوية في الجانب المادي للثقافة، لكن اعتماد البدو على أدوات الحضر المتقدمة تقنيا يعتمد فقط على مدى حاجتهم لها، فالحاجة هي التي تدفع إلى الإنتاج والتقدم في أحد مجالات الثقافة، ومن هنا نشدد على التقدم الثقافي للبدو في الجوانب التي استدعتها حاجتهم أكثر من الحضر: مثل التنظيمات الاجتماعية والسياسية والقضائية والقدرات الحربية والفصاحة والبيان وغيرها: «لا أحد ينكر دور البدو في الفتوحات الإسلامية قديما وفي توحيد المملكة العربية السعودية حديثا».
يورد بعد هذا الصويان الآراء بأن الرعي جاء متقدما على ممارسة الإنسان الزراعة بفترة طويلة، حيث إن استئناس الحيوانات أتى بعد تدجين النبات، فالحقول المزروعة تمثل عامل جذب للحيوانات البرية، ثم لاحقا بعد أن تمكن الإنسان من الزراعة بعيدا عن مجاري الأنهار وما حدث من تفجر سكاني نتيجة إنتاج الغذاء، أصبح الغذاء كافيا للإنسان فقط دون الحيوان. ما أحدثته الزراعة من نشأة للقرى وازدياد في حجمها، أثر على الرعاة الذين اضطروا للرعي في المناطق الصحراوية: «وكلما توغل الرعاة بعيدا في الصحراء، كلما أصبحوا هم وماشيتهم عرضة للسباع والوحوش والسلب والنهب.. في هذه المرحلة كانت الزراعة والرعي قد أصبحتا مهمتين شاقتين كل منهما تحتاج إلى مهارات خاصة مما جعل من الصعب الجمع بينهما ولذلك انفصل الرعاة عن الفلاحين واصطحبوا معهم عائلاتهم وصاروا يعيشون في جماعات منظمة». البداوة بمفهومها العربي ترتبط بشكل أساسي باستئناس البعير، الذي لم يتيسر إلا منذ أربعة آلاف سنة. غير الزراعة التي نشأت منذ عشرة آلاف سنة.
0 التعليقات :